راشد يزرع

لا أتذكر أن فريقا أوربيا جاء إلى بغداد في تكريم "رنان" لأي من نجوم الكرة العراقية في مهرجان كبير يدعى إليه النجوم ، ويشارك فيه كل من له صلة أو ليست له صلة بهذا النجم ..
كل ما يخطر في البال الآن وأحسد المدافع الدولي الكبير حسن فرحان عليه ، أنه استثمر وجود المنتخب الكويتي في مباراة ودية كي يعلن اعتزاله الكروي النهائي .. وقد أجريت المباراة في ملعب الشعب عام 1989 .. ويومها افلت نجمنا الدفاعي من ذلك المصير الذي تربّص بنجوم سبقوه أو لحقوه على هذه الطريق المقفرة .. وترك لاتحاد الكرة واللجنة الاولمبية ترتيب الأمر ول في أدنى المستلزمات ، ونجحت الفكرة على بساطتها الشديدة وعلى "البدائية" التي تمّ فيها إخراج الحفل .. وقد كان كثيرون يتصورون أن حسن فرحان سيحمل بعضا من مال قارون من فرط التكريمات التي كانت متوقعة ، لكن الرجل خرج بالتفاتة وداع إلى المدرجات ثم بإيماءة حب للجمهور الوفي الذي لم يكن لديه ما يقدمه غير التعاطف!
غير هذا المشهد الذي ظل عالقا في ذهني ، لم يحصل أن حظي لاعب كروي عراقي بشرف التكريم المبهر أسوة بالمئات من اللاعبين الذين يعتزلون من حولنا وتتداعى بلدانهم لإقامة أعراس تاريخية في ذكرى الاعتزال حتى تبقى خالدة في ذاكرة الأجيال ..
اللاعب العراقي الموهوب المتألق "المنتج" الذي يفوق سواه عربيا وقاريا مسكين ، فهو لا يجد من يمد يده إليه يده لمصافحته في لحظة الفراق .. ثم يدخل اللاعب طيّ النسيان ، فلا تمر بعقله في خريف العمر غير تلك السنوات العديدة التي أمضاها في الملاعب وقدم فيها الغالي والنفيس ، ثم جرى بيعه في ساعة الاعتزال كما تباع ذمم القائمين على شؤون الكرة!
مرّ في الذاكرة عشرات النجوم الذين ودعوا الملاعب ، لكنهم لم يكتبوا الفصل الأخير في صيغة اعتزال محدد بزمن ومباراة وذكرى وجمهور بالآلاف وهدايا تنهال عليهم من خير الوطن الجارف .. لن اذكر اسما واحدا جار عليه أهل القرار فدعوه ينصرف كما تنصرف الشياطين ، لكني أتحدى ذاكرة أي منكم في أن يورد لي اسم لاعب عراقي واحد نال عُشر معشار ما ناله في يومنا هذا اللاعب القطري الخلوق جفال راشد الذي تحول يوم اعتزاله إلى مناسبة دعي إليها كبار نجوم الكرة في العالم ، أقلتهم طائرة خاصة من مدينة ميلانو إلى قلب مدينة الدوحة ..
كلما أتوقف عند هذا الحدث ، أتذكر عبارة "راشد يزرع" أيام محو الأمية في السبعينيات من القرن الماضي .. وقد زرع جفال راشد في أرض بلاده ما زرعه نجم من طراز فلاح حسن أو هادي احمد أو رعد حمودي أو دوكلص عزيز أو حسين سعيد أو عدنان درجال أو عشرات غيرهم ، فماذا جنى هؤلاء من تلك الثروات الطائلة التي تهطل على أباطرة القرار الرياضي في الأمس كما تهطل عليهم اليوم ..
"لا كرامة لمبدع في العراق".. تلك هي القصة أيها السادة ، عندما يتصدى للمسؤولية الكبرى سقط المتاع ولا يرى المبدعون منهم سوى التجاهل حدّ التناسي ، والإنكار حدّ الإذلال!